القاهرة بسكونها وضوضائها
Read this post in English
"أكثر الناس ضياعاً في ميادين المدن البعيدة هو الذي فهم المدن الأخرى التي اجتازها ليصل هناك، والذي يستذكر مراحل رحلته، ويجيء إلى الميناء الذي أبحر منه والأماكن التي ألفها في شبابه، وما يحيط ببيته، والميدان الصغير لمدينته حيث كان فيها طفلاً يثب مرحاً هناك."
- إيتالو كالفينو، مدن لا مرئية (١٩٧٢)
أقف في قلب واحدةٍ من أكثر مناطق القاهرة جلبةً وازدحاماً؛ أصوات متضاربة تملأ المكان، وصخب ميدان رمسيس يستحوذ على انتباهي ويفقدني صوابي وسط زحمة السير وتدفقها العشوائي. يندفع الناس نحو محطة مصر ومنها بالتزامن مع وصول القطارات ومغادرتها. أحاول أن أشق طريقي بحذر وسط ميدان رمسيس بينما يصارع عقلي دفق الضجيج المحيط به، فهو أكثر حدة وصخباً من قدرتي على الاستيعاب.
على الرصيف خارج محطة القطارات، أجد نفسي محاطةً بالحافلات الصغيرة المكتظة والسيارات التي تنتظر عند موقف حافلات عشوائي. أرى البضائع المختلفة متناثرة فوق قطع من القماش على طول الأرصفة الممتدة أمام محطة القطارات. أنظر إلى أطراف الميدان لأرى فوضى مدينة القاهرة تتعاظم أبعد من ناظري، بينما تندفع جحافل السيارات والشاحنات والحافلات والعربات والدراجات والناس عبر جسر ٦ أكتوبر الممتد فوقي. ووفقاً لنصيحة أخصائي السمعيات ومعالج النطق، أحاول تمييز الأصوات المختلفة من بين ضوضاء المدينة العشوائية؛ فأميز صوت هدير شاحنة مسرعة، صياح باعة جوالين ينادون على بضائعهم، وكذلك صفير القطارات.
القاهرة؛ مهد طفولتي، ومنبع الأصوات المشوشة التي لا تنتهي، والتي كنت – حتى هذه اللحظة – أحسبها صامتة، فقبل أن أخضع لعملية زراعة القوقعة، عرفت هذه المدينة كمشهد صاخب دون أن أسمعها.
بالنسبة لي، لم تكن السيارات والشاحنات الهادرة سوى أشكال متحركة تتهادى وسط زحام الشوارع. ولم تكن شاحنات الهدم التي تدك المباني سوى عمالقة حديدية ترفع أذرعها متوعدةً عبر السماء. ومهما علت أصوات صفارات سيارات الإسعاف، لم تكن بالنسبة لي سوى أضواء وامضة تنطلق مسرعةً عبر ممرات الطرق المختنقة. وكان الباعة الجوالون يبدون لي وهم ينادون على بضائعهم فقط شخوصاً بوجوه حمراء وأوردة وداجية منتفخة.
نشأت صمّاء، أمرر يدي على جدران المدينة العتيقة لأتحسس غالباً خربشات
الأحرف الأولى من أسماء عشاق مجهولين. ألقي بكفي لأتلمّس برودة صخور مبانيها، وألصق وجهي بأبواب منازلها الخشبية المنحوتة لأشعر بوخز ذبذبات الصوت تداعب وجنتَيّ. أتمشى تحت فيء الأشجار المعمرة في شوارع القاهرة، وأمرر أصابعي عبر أغصانها المورقة (الصورة ١).
الطفولة / المنزل
كنت في السادسة من عمري حين اكْتَسَبت آليات خاصة للتأقلم مع الصمم؛ أذكر بوضوح صيف عام ٢٠٠١ – وهو أول صيف أقضي خلاله فترات الظهيرة في حجرات مقياس السمع عند أخصائييّ السمع بدلاً من الأكواخ الشاطئية على ضفاف البحر المتوسط حيث كنت أمضي عطلاتي سابقاً.
كانت "المدرسة" بالنسبة لي تقتصر على متابعة حركة شفاه معلمة اللغة الإنجليزية في الصف الخامس، والشعور بأنفاسها تلفح وجهي بينما كانت تتحدث إلى الصف. وكنت أحاول جاهدةً البحث عن إشارات بين شفاه المعلمين وتفسير المقاطع الصوتية وقراءة الأصوات التي تنساب من بين أسنانهم. كانت معلمة اللغة الإنجليزية تحب التحدث إلى نفسها، كثيرا ما حدقت إلى شفاهها فيما كانت تتمتم أحاديث عن حياتها الشخصية؛ وقد كانت تناجي نفسها كل يوم. في الصف الخامس، تعلمت قراءة الشفاه واستراق السمع، وأصبحت تلك لعبتي المفضلة.
في طفولتي، كان تواصلي المباشر مع المدينة يقتصر على مشواري القصير جيئةً وذهاباً إلى المدرسة، حيث نشأت في ميدان المساحة الذي يبعد عن وسط القاهرة مسافة ٣٠ دقيقة سيراً على الأقدام. في الماضي، كان هذا الميدان بحديقته العامة منطقة تجمّع لقصور وفيلات. وبالرغم من استبدال بعضها بعمارات سكنية، إلا أن بقية الأماكن تحولت إلى سفارات ومدارس التي ازادت ازدحام المنطقة خلال ساعات الذروة صباحاً وبعد الظهر. كنت أشاهد الأطفال يلعبون كرة القدم على الأرصفة، فيما يرقص بعضهم الآخر حول باعة جوالين يعزفون على آلة الربابة الخشبية، وقد اعتدت بعد خروجي من المدرسة أن أرقص على وقع حركات الأطفال الآخرين.
كانت طفولتي استكشافاً صامتاً للألوان والأحاسيس، حيث أفسح السمع المجال أمام حاستي البصر واللمس. أتذكر اجتياز الرواق الطويل في منزلنا وأنا أمرر يدي اليسرى على السطح الخشن للحائط قبل أن أنعطف يسرةً نحو مطبخنا الصغير المعتم. محاطةً بصمتٍ مطبقٍ لم أكن أخشاه أبداً، كنت أقف على أطراف أصابعي وأمد يدي لأبلغ مذياع أمي الأحمر على طاولة الجرانيت الباردة. كان الصمت يتلاشى عندما أتحسس غطاء مكبر الصوت لأشعر بخفقانه يمرر موجة مفعمة بالحواس عبر أطراف أصابعي، فيعود الصمت مجدداً عندما أبعد يدي. اعتدت أن أعبث بهوائي المذياع لأصنع ذبذبات صوتية، وكلما تعالت خشخشة المذياع ازداد معها اهتزاز غطاء مكبر الصوت.
تتناهى إلى ذاكرتي تلك الليالي الطوال وأنا أغفو في حضن جدتي وأصابعي تتلمس حنجرتها لأشعر بحبالها الصوتية تهتز مع غنائها، وأرى شفاهها تتحرك وحضنها يتمايل مع تهويدات لم أسمعها قط. أصيبت جدتي "عزيزة" بسكتة دماغية أفقدتها القدرة على الكلام قبل أن أحصل على أول سماعة طبية. هكذا كانت طفولتي، تعرفت على الأصوات في مكان ما بين موجات الصوت المرتعشة ونثرات الزمن العابرة.
الثورة / الميدان
إطلاق رصاص! يهلع المتظاهرون بحثاً عن ملجأ يحميهم من الطلقات، بينما أنا أبحث بلهفةٍ عن شفاهٍ أقرأها وسط الجماهير المضطربة. إنه يوم ٢٠ نوفمبر ٢.١١، والجميع يغطّون وجوههم لحماية رئاتهم من الغاز المسيل للدموع. لا تلتقط سماعات الأذن الخاصة بي سوى سلسلةً من الانفجارات والأصوات المدوّية، كاتمةً ومشوّهةً أناشيد الحريّة الصادحة، وتاركةً إياي وسط فوضى الصمت والدخان. تئنّ مساعدات السمع في أذنيّ بأصوات الصافرات ممزوجة بصدى الطلقات الناريّة. بالرغم من محاولاتي، أعجز عن تحديد أكانت الأصوات لذخيرةً حيّة أم لقنابل الغاز المسيل للدموع.
في ميدان التحرير، أسير عبر الشوارع التي شهدت يقظة انتفاضاتٍ عديدة. إنه عام ٢٠٢٠ الآن، أي عام الذكرى التاسعة لثورة ٢٠١١، وقد عدت لتوّي بعد غيابٍ دام ثلاث سنوات. يبدو الميدان غريباً، والمدينة صامتة وضعيفة؛ ومع ذلك، أشعر وكأنّ الثورة لم تنتهِ حقاً.
إنها ظهيرة يوم ثلاثاء حار في شهر أبريل، وضجيج المدينة المتضارب يبدو مألوفاً. تداعب الرياح الأوراقَ بلطف لتمرّ منها عبر رؤوس الأشجار المورقة في القاهرة. تحت شجرة الأكاسيا، أخذت أستمع لصوت الطيور المغرّدة قبل أن يقاطعها هدير هواء المكيّفات، وصوتُ رافعةٍ صاخبة تحمّل أطناناً من الإسمنت في موقع للبناء، وشاحنتان للهدم تضربان مبنىً قديم بدون كلل في مكان قريب.
كان ذلك بعد بضعة أسابيع فقط على إجرائي عملية زراعة القوقعة.
قلّما أتحدث حقاً عن أحداث عام ٢٠١١، فكيف أشرح حالة الصمت بعد لحظات الفوضى الثوريّة في المدينة، أو حالة الهدوء في صميم الانتفاضة؟ لقد عرفتُ القاهرة الصاخبة مدينةً غير مسموعة، ورأيت الثورة كتلاً ضبابية من الاضطرابات؛ علّمني الضجيج الذي لا يكلّ وخوفي من الوقوع وسط صخب المشاحنات أن أجد الراحة في ما لا يمكنني سماعه، أن أنزوي نحو الصمت وأبقى خفيّةً (الصورة 5).
حين أقوم بتشغيل معالج صوت القوقعة، أشعر أنني بالكاد أعرف هذا المكان. أخفق في محاولات استحضار الأصوات القديمة لمدينتي، إذ يتلقاها عقلي الآن بطريقة مختلفة. كما أنّ الاهتزازات والترددات والنغمات ونطاق الأصوات باتت جميعها الآن صفات دخيلة استولت على أصوات الماضي.
أراقب الناس من حولي وهم يدخلون ويغادرون نطاق المشهد الصوتي للمدينة؛ وينعكس ذلك أيضاً في خطواتي عبر الشوارع، وفي اختبار الأصوات الجديدة للأماكن المألوفة.
ومع كل تلك الأصوات التي تبدو غريبةً عني الآن، أتساءل ما إذا كانت ذاكرتي عن الوطن مرئيةً دائماً. فأنا فتاة صمّاء تعود إلى مدينتها بأذنين صناعيتين لتبحث عن الصمت في ازدحام الأفق. هذه أنا الآن، أجوب الشوارع التي نشأت فيها بحثاً عن بعض لحظات الصمت التي أضعتها. أنحني لأتلمّس الرصيف الذي أعتدت المشي عليه بخطوات متثاقلة، وأتحسس الجدران غير المستوية. بينما الاحظ تحول العديد من المباني التي نشأت حولها إلى أطلال، أسأل نفسي: إذا لم يكن المرء قادراً على حفظ مدينته، فكيف له أن يحافظ على ذكرياته؟
ترجم هذا المقال للعربية من قبل أمداء م م ح / AMDAA FZE