الهدم والأهمية الملحّة لتاريخ العمارة في مصر
Follow the link to read this post in English
اﻹزالات التي نفذت بدون إنذار لبناء معبرعلوي للطريق السريع بطول 17.5 كيلو متر ينتهك حرمة الموقع التاريخي الفريد. أثارت موجة اعتراض واسعة، فأصدرت وزارة السياحة و الآثار ردًا موجزًا على صفحتها بموقع فيس بوك في 20 يوليو/ تموز 2020 تقول فيه أن ما من "أثر مسجل" سيلحق به الضرر جراء عمليات الهدم. لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن عدد اﻵثار اﻹسلامية المسجلة في مصر كلها يبلغ 774 أثرًا فقط. هذا النقص الجسيم سببه أن لجنة الحفاظ علي الآثار العربية القديمة (1881-1961) أصدرت آخر قائمة للآثار المسجلة عام 1951 وتضم 619 آثراً(1). وطوال أكثر من نصف قرن لم يضف لها سوى ما يقارب 150 أثر إسلامى على مستوى الجمهورية بالرغم من وفرتها بالألاف داخل اسوار القاهرة التاريخية وحدها. أدى هذا إلي تدهور منطقة القاهرة التاريخية وجودتها التراثية، والتي تعد أكبر تمركز للآثار الإسلامية في العالم. توضح هذه الأزمة استمرار الخلاف حول تعريف ماهي العمارة الإسلامية؟ من يحدد قيمتها التراثية؟ وهل هو تراث حي يستمر في إنتاج مفردات معمارية تتماشى مع العصر؟ أم أنه مصطلح تاريخي يرتبط بالمباني الأثرية التي شيدت في الماضي فقط؟
هل يعتبر هذا إقرار بالاستغناء عن التراث المعماري الحديث؟ وأن ما أنتجته مجتمعاتنا العربية خلال القرن الماضي يقع خارج نطاق الحداثة؟ وأن تجاربنا ليست إلا هامش في تاريخنا القومي وليس بالضرورة الحفاظ على آثار مجتمعاتنا الحديثة إلا إذا كان لها جذب سياحي؟
اعتبرت مقابر القرن العشرين المُزالة بلا قيمة تاريخية. ليست اﻹزالة العشوائية انتهاك لحرمة الموتى فقط، بما يخالف العادات والتقاليد المصرية وأيضا الشريعة اﻹسلامية، بل تمثل تعديًا على الملكية الخاصة. (صورة ١) من بين المدافن التي دمرت كلياً أو جزئياً مدفن الروائي إحسان عبد القدوس، رجل الصناعة عبود باشا (مؤسس شركات السكر وشركة البريد الخديوية وشركة الأمنيبوس العمومية وأول مصري في مجلس إدارة شركة قناة السويس)، المحامي ورئيس الوزراء حسن باشا صبري، المؤرخ أحمد لطفي السيد والأميرة نازلي حفيدة محمد على مؤسس مصر الحديثة. بُنى العديد من تلك المدافن الحديثة إلى جانب مدافن سلاطين المماليك وأمرائهم باستخدام عمارة تنتمي إلى الروح القومية التي تلت ثورة 1919. يلقي هذا الوضع العاجل الضوء على أزمة الهوية في التعامل مع تاريخ الحداثة المتنازع عليه وعادة ما يمحى. يعكس مصير مدافن الموتى من القرن العشرين المتضررة مصائر العمارة من نفس الحقبة الزمنية في مساكن اﻷحياء.
نشرت آخر دراسة شاملة للعمارة المصرية في القرن العشرين في عام 1989 على يد توفيق عبد الجواد، وهو محرر مشارك في مجلة العمارة (1939 - 1959). كتابة هذا التاريخ متعسرة، فالمحفوظات متناثرة أو غير موجودة أو مفقودة أو يتعذر الوصول إليها. والمادة البحثية الرئيسية أي المباني، تختفي بلا إنذار وغالباً ما يصعب الوصول إلى أبسط المعلومات التي تعتمد عليها كتابة التاريخ مثل اسم المعماري وزبونه وتاريخ البناء. صعوبة التفاعل مع تاريخ العمارة في القرن الماضي ترجع بحد كبير إلى أن المجتمع المصري لم يتعامل بشكل كامل مع تاريخه في فترة الاستعمار وما بعدها.
السردية الرسمية للحداثة في مصر انحصرت في التركيز على أفراد بعينهم، لا سيما الرؤساء. في الخمسينيات، نأت الدولة بنفسها عن النظام الملكي وأصبحت مبانيها أهدافًا جوهرية. وتعاملت الأنظمة اللاحقة مع العمارة بطريقة مماثلة: فمع كل رئيس يتعرض الإرث المعماري لسلفه للطمس. وأصبحت المدن المصرية ساحات قتال في حرب الذاكرة والتاريخ، حرفت الروايات ومحيت، ونادراً ما أعيد تصحيحها أو تدوينها.
يزداد الأمر تعقيدًا مع قلة المؤسسات وقدرتها المحدودة على إتاحة المعلومات والأدوات للجمهور والمختصين لاستكشاف التواريخ الحديثة والمعاصرة. ولا تهتم المتاحف والجامعات والرابطات المهنية للمهندسين المعماريين بالتأريخ أو دراسة تراث العمارة الحديثة. إلى جانب ما سبق فالاحتجاج محظور، والعمل الأهلي مكبل بعشرات القيود، وهو ما يشل المجتمع المدني ويعيق قدرته على التنظيم لحماية تراثه والتفاعل معه بشكل منظم ومستدام.
أن سياسات ما بعد عام 1952 التي تبدأ من التأميم إلى قوانين الإيجار القديمة وترحيل مجتمعات مختلفة، جعلت من الصعوبة تتبع ملكية معظم مباني تراث القرن العشرين وبالتالي يصعب تأريخها. انتقلت المباني من يد إلى أخرى مرات عديدة حتى أننا لا نعرف غالبًا من قام ببنائها في المقام الأول. من ناحية أخرى ، فبسبب الميراث، يوجد الآن عشرات المالكين الذين يتشاجرون حول مصير المبنى وهو ما يؤدي غالبًا إلى إهمال المبنى أو في أسوأ الحالات هدمه مع تيسير من الجهات البيروقراطية للحصول على ربح سريع من قيمة الأرض. كما أن قوانين ولوائح التراث غير متناسقة وقديمة وتسبب لأصحاب المباني التي أدرجها الجهاز القومي للتنسيق الحضاري (NOUH) باعتبارها تراث، معاناة مالية، حيث يصعب تسجيل المبنى من قدرتهم على الاستفادة من المبنى أو حتي دفع تكاليف صيانته. يرتبط اعتبار المبنى كتراث في التعريف المصري بمرور فترة زمنية ثابتة وهي مئة عام، وهو ما تسبب في زوال أغلب المباني والنسيج العمراني المبنى خلال القرن الماضي. يتعارض شرط المائة العام مع القواعد الحديثة لحفظ المباني التراثية. فمع تسارع معدلات التحديث والنمو في العالم تم تقليص الفترة الزمنية بين بناء المبنى واعتباره تراثي، حتى أن قائمة مواقع اليونسكو للتراث العالمي ضمت في عام 2007 الحرم الجامعي في عاصمة المكسيك والذي بني في أوائل خمسينات القرن العشرين.
نتيجة للسياسات القائمة، يتوق المالكون إلى تجنب إدراج ممتلكاتهم كتراث وإلى الوقت الذي يستطيعون فيه القيام بالهدم. تكشف نظرة خاطفة على قائمة المباني المسجلة "ذات قيمة" عن حالات كثيرة يقوم أصحاب المباني برفع قضايا لإزالة المباني من قوائم التراث، تمهيداً لهدمه.
في هذا السياق ولمقاومة تجريف الذاكرة يجب علينا التحرك على عدة محاور:
- نشر التاريخ المعماري، وخاصة العمارة الحديثة، في مصر وفي الشرق الأوسط على نطاق واسع وبوسائل مختلفة.
- دعم وتشجيع الباحثين المحليين علي إنتاج سرديات جديدة عن تاريخنا المعاصروخصوصاً الدور الذي لعبته مباني حيوية في ذلك التاريخ، لإثراء النقاش العام وسردية التاريخ المعاصر.
- -تحتاج الجامعات إلى إنتاج المؤرخين المعماريين وجعل التواريخ المعمارية المحلية والإقليمية جزءًا إلزاميًا من المناهج الدراسية لإنتاج المهندسين. ويجب التعامل مع أطروحة التراث بربطها بالنطاق الأوسع الذي يضم كيفية إدارة المدينة و سوق الإسكان وهو عامل الضغط الأساسي في مواجهة المباني التاريخية.
يمكن لشبكة إقليمية من المتخصصين في العمارة الحديثة والمعاصرة من خلفيات متنوعة بداية من الممارسين إلى المؤرخين ومنسقي المعارض، أن تمثل قوة دافعة لتنشيط مبادرات كتابة تاريخ الحداثة العربية عبر النظر لتاريخ العمارة من خلال المعارض والمنشورات، واستخدام هذه المعرفة باعتبارها نقطة انطلاق لتنشيط العمارة المعاصرة في مدننا. فالقاهرة والمدن الأخرى، وخاصة المدن القديمة في المنطقة العربية، بحاجة ماسة إلى سياسات مرنة لحماية التراث المعماري تجعل استقرار هوية المدينة منشط اقتصادي لها لا عبئا عليها. كما تحتاج مدننا إلى الخبرة المحلية للحفاظ بشكل دوري على المباني حتى لا تتهالك . ويمكن عن طريق السياسات وإعادة التدريب أن تتطور شركات بناء يتمركز عملها على صيانة وإعادة تأهيل المباني القائمة بدلا من النموذج السائد الذي يعتمد على الهدم و البناء المستمر مهما كانت موازين السوق.
المباني وثائق حية، والمدينة أرشيف حي. لا تخبرنا المباني عن الخيارات الجمالية التي يختارها المهندسين المعماريين زبائنهم فحسب، لكنها تخبرنا كذلك عن الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية وظروف الحكم المحلي التي أنتجتها. فإذا نظرنا اليوم لمدننا، ماذا نرى؟ لا يمكننا التعامل مع الأرشيف بالحذف والإضافة وإلا أصبح ذلك تزويراً، وبالمثل لا يمكن التعامل مع المبانى بذات الطريقة، وفي حالة إذا ما كان التغيير ضرورياً وهو ضروري في كثير من الأحيان، فيجب أن نحتفظ بسجلات دقيقة لها .
نتقدم بجزيل الشكر للسيد عمر عبود على مساعدته في اظهار هذا المقال. وكذلك نشكر السيد احمد ناجي و السيد حسين الحاج على تنقيح المقال في اللغة العربية. PLATFORM
الهوامش
(1) Nicholas Warner, The Monuments of Historic Cairo: A Map and Descriptive Catalogue. (Cairo: The American University in Cairo Press, 2005), 87.
(2) طبقًا لجانيت أبو لغد، فقد تضاعف عدد السكان ليصل إلى 1.6 مليون نسمة أثناء فترة 1947-1960 في الجانب الشمالي من القاهرة وحده، أي أكثر من ثلث سكان القاهرة." تضاعف العدد الكلي لسكان مدينة القاهرة تقريبًا في الفترة نفسها، تحولت مساحات كاملة من اﻷراضي الزراعية الرسمية (مجمل 800 هكتار) إلى مناطق سكنية جديدة (العجوزة والمهندسين)، باﻹضافة إلى تخطيط مدينة نصر، وهو تمدد عمراني جديد شاسع في صحراء شرق القاهرة. راجع Janet Abu-Lughod, “Tale of Two Cities: The Origins of Modern Cairo,” Comparative Studies in Society and History 8, no. 4 (July 1965): 429-57.
(3) David Sims, Understanding Cairo: The Logic of a City Out of Control. (Cairo: The American University in Cairo Press, 2010), 83.
(4) كما يلاحظ ديفيد سيمز (2010)، "يمكن اعتبار القاهرة كلها في خمسينيات القرن العشرين بصفتها رسمية."، وبحلول 2009، عاش حوالي 63% من سكان القاهرة في مناطق غير رسمية بدون أن يكون للمعماريين أي دور فيها.Sims, Understanding Cairo, 46 (quote), 91.
(5) Abu-Lughod, “Tale of Two Cities,” 231.
(6) ترافق ظهور الحداثة المعمارية في مصر مع تطور العلوم الاجتماعية المصرية وصعود الطبقة الوسطى الحضرية الجديدة وانتشار التصنيع الوطني والاستهلاك في فترة ما بين الحربين العالميتين. راجع Omnia El Shakry, The Great Social Laboratory: Subjects of Knowledge in Colonial and Postcolonial Egypt (Stanford: Stanford University Press, 2007), 115.