مشاعر ذات حدة، الجزء الثاني: تاريخ مَمحِيّ
Follow the link to read this post in English
وفقاً لما كتبه المؤرخ المعماري العراقي شريف يوسف، يرجع بناء مبنى السراي ، الذي يعني القصر او المبنى الحكومي، إلى عهد والي بغداد العثماني سليمان باشا. وتم تشييده في عام ١٨٠٢ في نفس موقع مبنىً حكومياً اقدم منه.(١) رُمِّمَ المبنى على مدى العقود المتتالية من قبل ولاة عدة؛ اكثر هذه الترميمات جدارة بالذكر هي تلك التي حدثت في عهد الوالي مدحت باشا عام ١٨٧٠ عندما أمر باعادة استخدام آجر من سور بغداد العباسي.(٢) كلمة "السراي" تخص مبنىً واحداً ولكن التسمية اتسعت لتشمل منطقة اكبر والتي تتضمن القشلة (ثكنة الجنود القديمة بساعتها الشهيرة) وبيت الوالي وابنية أخرى ذات وظائف حكومية وعسكرية (صورة ٤ و ٥). يعود تاريخ المنطقة لأزمنة سبقت العهد العثماني يمكن استدلالها واثباتها عن طريق وجود أبنية عباسية مهمة في القرب كالقصر العباسي (الذي ربما شُيّد في الفترة العباسية المتاخرة (١١٧٥- ١٢٣٠)) والمدرسة المستنصرية (اكتمل بناؤها عام ١٢٣٤). يعرف البغداديون اليوم القليل عن تاريخ هذه الابنية وفي الغالب تختلط التسميات عليهم.
لعبت مس كَيرترود بَلْ (تكتب ايضاً جيرترود بيل) -الرحالة وعالمة الآثار وصانعة القرارات السياسية- دوراً مهماً في وضع خطة لتهدئة الثورة، وبالتالي استمرار السيطرة البريطانية، عن طريق تشكيل حكومة عربية تحت الرعاية البريطانية. بعد تشكيل الحكومة المحلية أواخر عام ١٩٢٠، بدأ الإنسحاب البطيء للجيش البريطاني وعوائل الضباط من السراي. كان من المهم ان يظهر المبنى كرمز لاعادة السيادة لحكومة عراقية وان كان واقع الأمر مختلفاً حيث عُيِّنَ لكل وزير عراقي "مستشار" بريطاني يرافقه. كان للمس بَلْ أيضا دور اساسي في اقناع وزير المستعمرات آنذاك وينستون تشرشل، بدعم الأمير فيصل نجل شريف مكة ليصبح ملكاً للمملكة الحديثة المُنْتَدبة. تٌوِّجَ الملك في ساحة القشلة يوم ٢٣ آب-أغسطس من عام ١٩٢١. أشرفت بَلْ بنفسها على تحوير غرف عدة في السراي لسكن الملك الجديد أول وصوله للبلد.
رغم عدم توفر الفضاءات الكافية لأستيعاب جميع الوزراء والمستشارين، تمكنت بَلْ من تأمين غرفة لنفسها في المبنى كنواة لمتحف. (٣) في التقاء رمزي للغاية، ضم مبنى السراي متحف العراق الذي أسسته بَلْ، وديوان الملك فيصل الأول، وأسفله مباشرة مكتب المعمار جيمس موليسون ولسون. (٤) وبهذا اجتمعت في السراي، ولو لفترة قصيرة، القوى الثلاث التي خططت لتشكيل صورة ماضي وحاضر ومستقبل الدولة الجديدة. (٥)
حدث خلال السنة الأولى من حكم الملك فيصل الأول فيضان لنهر دجلة وكان هذا الحدث اشبه بنذير شؤم فقد تسبب الفيضان بانهيار الجناح الجنوبي الغربي من مبنى السراي حيث كان ديوان الملك ومكتب ولسون. يتوفر في العراق عدد قليل جدا من المستندات حول هذا الانهيار الجزئي، وبسبب قيود التأشيرات للسفر لا يستطيع الباحثون العراقيون الوصول إلى الوثائق التي كانت في السابق سرية والموجودة حاليا في الأرشيف البريطاني والتي يمكنها ان تُغْني بحوثهم بمعلومات تمكِّنهم من إعادة تشكيل احداث منسية. اخص بالذكر الخرائط والصور الجوية التي التقطها الجيش البريطاني لبغداد بعد استيلاءه على المدينة بفترة وجيزة في آذار-مارس من عام ١٩١٧. وفقاً لهذه الارشيفات، كان لمبنى السراي الحكومي آنذاك تصميم مختلف تماماً عن التصميم الحالي (صورة ٦). ظهر السراي في الأرشيف كمبنى واسع وظهر فناؤه مغلقاً بالكامل (صورة ٧). هناك صورة أخرى من الأرشيف، التُقِطَتْ في يوم اعلان انتهاء الحرب العالمية الاولى في ١١ تشرين الثاني-نوفمبر من عام ١٩١٨، والتي تؤكد هذا الاختلاف في التصميم، حيث يمكننا استنتاج شكل الفناء الكبير المغلق من شكل اصطفاف الجماهير الحاضرة وموقع المصور بالنسبة للقبة التاريخية التي تتوج مدخل السراي والذي يؤكد وجود جناح المبنى المطل على نهر دجلة والذي لم يعد موجودا الآن (صورة ٨).
ربما كان رد الفعل الأكثر ايلاماً لمسمع الملك فيصل الأول هو ما قاله الشاعر معروف الرصافي. (٧) كان الرصافي قد عُيِّنَ في منصب في وزارة التربية والتعليم في السراي بمساعدة كَيرترود بَلْ. كان ذلك على الأرجح إجراء من جانبها للسيطرة على قلمه. (٨) بعد الانهيار، وبعد عبوره مدخل السراي المقبب، ذهل الرصافي عندما رأى النهر أمامه بدلا من المبنى. كان رد فعله التلقائي عند رؤية الدمار هو نظم الابيات التالية:
ليت شعري أبِلاطٌ أم ملاطٌ
أم مَليك بالزعاطيط مُحاط
غضب الله على صاحبه
فتداعى ساقطاً ذلك البلاط. (٩)
انتشرت القصيدة كالنار في الهشيم. أصبح حدث الانهيار رمزاً للغضب الإلهي على الملك الذي وقف مع قوة غير مسلمة، واعطى دمار المبنى الجرأة للاصوات الخافتة ان تعلو. كان حكم الملك مزعزعاً؛ كان يحاول ان يجد توازناً مستحيلاً بين ايديولوجياته القومية العربية وبين حقيقة الوضع السياسي الغير متكافيء الذي احاطه. كان العام الأول من حكم الملك فيصل الأول مليئاً بالاضطرابات والتدخلات الاجنبية. لم يكن حكم العراق اكثر سهولة في القرن الذي تلى هذه السنة.
اقتَرَبْتُ من مبنى السراي وأنا افكر في هذه الروايات المنسية. المبنى ليس مفتوحاً للجمهور، ولكني تمكنت من دخول المنطقة بعد ان أخبرت الحراس باني مهندسة معمارية، وهو لقب يمنح الاحترام لمن يحمله وبالاخص ان كانت امرأة. اخيراً وصلت؛ ولكني لم أشاهد سوى بناية مهجورة متداعية (صورة ٩). كيف يكون رد فعل الرصافي لو رأى هذا المشهد المؤثر الآن يا ترى؟ القبة الجميلة التي تتوج مدخل السراي هي الجزء الوحيد الذي ما زال واقفاً بتحد، ولكن إلى متى؟
الهوامش
(١) يدعى مبنى السراي أيضا بسراي بغداد ومبنى السراي الحكومي.
(٢) يوسف، شريف. تاريخ فن العمارة العراقية في مختلف العصور . دار الرشيد للنشر، بغداد، ١٩٨٢. ٥٦٩- ٥٧٥.
(٣) وير، لمياء الكيلاني. "كيرترود بيل في أرشيف متحف العراق." في كيرترود بيل والعراق: حياة وإرث، من تحرير تشارلز تريب وبول كولينز. أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، ٢٠١٧، ٢٧٥.
(٤) سميث، سي اتش ليندسي. ج.م.: تاريخ معمار. بليموث، كلارك، دوبلي وبريندون، ١٩٧٦، ٥.
(٥) النعيمي، سنى. "العمارة والحضرية في العراق في القرن العشرين: تأثير كَيرترود بَلْ المستمر." جامعة نيوكاسل، ٢٠١٨.
(٦) كان السير بيرسيفال فيليبس مراسلاً خاصاً أثناء الحرب العالمية الاولى. تم تكليفه من قبل جريدة ال"ديلي ميل" "للتحقيق مباشرة على ارض الحدث في حقيقة" احتلال البلاد. فيليبس، بيرسيفال. بلاد ما بين النهرين؛ تحقيق جريدة ال"ديلي ميل" في بغداد. لندن: صحف اسوشيت ١٩٢٢، ٥٥.
(٧) يروي التاريخ الشفهي ان الملك فيصل الأول التقى بالرصافي واعرب عن حزنه لما قاله في هذه القصيدة. من الغرابة الا تكون هناك أي إشارة إلى فيضان دجلة او انهيار السراي عند سرد أحداث هذا اللقاء.
(٨) يوسف عز الدين. شعراء العراق في القرن العشرين. بغداد، مطبعة السعد، ١٩٦٩، ٧٧.
(٩) لا تزال هذه القصيدة معروفة في بغداد، ولكن لا يوجد ذكر للفيضان وانهيار السراي الجزئي.