مشاعر ذات حدة، الجزء الأول: البحث عن بغداد
Follow this link to read this post in English.
كان درباً لم أألفه سابقاً، تحاذيه بيوت وحدائق صغيرة وتتخلله مطبات كثيرة. هتف أخي ببهجة " لقد وصلتِ لبيتكِ". ويالدهشتي... فهناك إلى اليمين كان منزل والديَّ، البيت الوحيد الذي لم يتغير شكله ضمن بيئة حضرية غريبة كلياً: بدا وكأنه واحة. لقد احتفظ بألفته الدافئة، تلك الحديقة الواسعة وافرة الخضرة وذلك الطابوق الجميل الرملي اللون الذي تتميز به البيوت البغدادية التي بنيت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. رأيت أيضاً الملحق للبيت الذي قمت بتصميمه عندما كنت لا ازال طالبة في قسم الهندسة المعمارية. ولكن لماذا لم أتمكن من معرفة الحي ولا الطريق إلى بيتي؟
لقد مر ما يقرب تسعة عشر عاماً منذ أن ودعت هذا المكان. لقد ابعدتني الحروب والأزمات المتكررة ولكن فقدان والدتي مؤخرا هو الذي دفعني للرجوع. لم يكن مُقدّراً لهذه الرحلة ان تكون سهلة ابداً. غالباً ما كان رد صديقاتي اللواتي لم يغادرن العراق حين أُفصِحُ عن حنيني للوطن هو "ان المكان الذي تفتقدين لم يعد موجوداً". كُنَّ للأسف يُشِرنَ إلى فقدان ما هو أكثر من مجرد البيئة الحضرية. لقد تعرض الكثير للضرر وأرهقت الحروبُ الناسَ والأماكن على حدٍ سواء. اعتاد السكان في العراق على تحديد الأحداث الشخصية في حياتهم عن طريق ذكر الحرب التي اقترنت ذكراها مع الحدث المذكور: الحرب العراقية-الأيرانية، حرب الخليج الأولى، الحصار الأقتصادي، الغزو الأمريكي عام ٢٠٠٣، سقوط الموصل، قائمة الحروب هذه طويلة وتمتد لتشمل حياتي كلها. ولكني قررت ألا أستسلم لهذا اليأس والشعور بالخسارة. أردت أن أرى بغداد... أراها بحق. عقدت العزم على محاولة إعادة الاتصال بالماضي، وفهم الحاضر، والبحث عن لمحات من الأمل لمستقبل العراق من خلال قراءة الامكنة وتحليلها. تحتفل البلاد بمرور مئة عام على تأسيس المملكة العراقية الهاشمية في ٢٣ آب-أغسطس ٢٠٢١. سارت هذه المملكة نحو استقلال معلن في عام ١٩٣٢ عند انتهاء الانتداب البريطاني. ها أنا اليوم اكتب كلماتي هذه وانا ينتابني شعور بالحزن والتفاؤل الحذر حينما استرجع أحداث رحلتي للوطن.
كان الجزء الأكثر صعوبة هو محاولة فهم الحاضر وايجاد سبب شعوري بالتيه عند وصولي للحي الذي نشأت فيه. كانت إحدى الإجابات واضحة وضوح الشمس، لا وبل ملقاة على الطريق أمامي بهيئة قطع من حواجز "جدار بريمر" الخرسانية المتداعية التي تغلق المنفذ لشارعنا. سمي هذا الجدار المضاد للتفجيرات بأسم بول بريمر، السياسي الأمريكي الذي تولى إدارة السلطة الأئتلافية المؤقتة في العراق بعد الاحتلال الأمريكي عام ٢٠٠٣ والذي أصدر مجموعة من القوانين التي كانت لها تداعيات خطيرة على أمن البلاد كحل الجيش العراقي وعزل العديد من الموظفين ذوي المناصب العالية. كان الجدار "حلاً" اوجده بريمر للسيطرة على بغداد عن طريق تمزيقها (صورة ١ ). منذ ذلك الحين، وحتى بعد أن غادر الجيش الأمريكي حدود مدينة بغداد، لا زالت معظم الشوارع الفرعية مقطوعة عن الشارع الرئيسي مما يجبر المركبات على المرور من خلال نقاط تفتيش مؤقتة في مظهرها، دائمية في واقعها. يتوجب على سائقي المركبات أن يخوضوا في متاهة معقدة للوصول لوجهة كان من المفروض أن تكون مباشرة. سرعان ما تعلمت لغة الاستدلال البغدادية الجديدة للتنقل في المدينة حيث أصبحت نقاط التفتيش علامات دالة لسائقي المركبات الذين يبحثون عن وجة معينة بالإضافة لكونها وسائل للتذكير بالوضع الأمني الغير مستقر. تخطيط المدينة المُحوَّر برُمَّتِهِ يُفضي بواقع شديد التوتر.
بالرغم من خطورة الوضع العام بسبب جائحة كورونا، غامرنا بالذهاب إلى مركز المدينة المزدحم متسلحين بالكمامات والمُعقِّمات. كان الهدف الرئيسي وراء رحلتنا هذه هو البحث عن كتاب مقرر لابن اخي، فالجامعات قد توقفت عن توفير المصادر الأكاديمية مجاناً. علمنا بوجود مكتبة واحدة فقط في المدينة حيث تتوفر مثل هذه الكتب وهي موجودة في شارع المتنبي، سوق الكتب التاريخي الشهير الذي يحاذي القشلة والسراي.
لم استطع إخفاء حماسي عندما مررنا بجانب جامع الحيدرخانة. مرة أخرى كان السائق الشاب غافلاً عن التسمية الصحيحة والمعرفة بتاريخ هذا الصرح المهم (صورة ١١). هنا وَجَدَتْ ثورة العشرين، التي دعت لاستقلال البلاد عن السيطرة البريطانية بعد الحرب العالمية الاولى، صوتها الفكري الواعي وهنا استلهمت قوتها من خلال القصائد الوطنية والخطب الحماسية التي كانت تُلْقى في الجامع بعد صلاة الجمعة. فور انتهاء تلك الخطب والقصائد كانت الجموع الغفيرة الغاضبة من شتى الطوائف والاديان تملأ شارع الرشيد وتتجه نحو السراي للتعبير عن غضبها. انتجت ثورة العشرين شعوراً جماعياً مَثَّلَ تماسكاً عراقياً فاق غيره من الحركات السياسية التي تلته على مدى القرن العشرين. صدى هذا التماسك موجود في إنتفاضة شباب بغداد في عام ٢٠١٩ حيث تعالت الاصوات مطالبة بوطن عراقي خال من الفساد الاداري والانقسام الطائفي. بدا لي ان شباب اليوم غير مدركين للأهمية التاريخية لأمكنة كشارع الرشيد وجامع الحيدرخانة وبهذا قد حُجِبَتْ عنهم أحداث تاريخية بإمكانها بث الإلهام والقوة في مسعاهم. زيارة السراي التي كنت على وشك البدء بها تحولت فجأة إلى مُهِمَّة مُلِحّة.